ولكن
هذه المهن التي هي مصدر للمفاخرة بما تصنعه يد الإنسان السوري بدأت تفقد
ظلها وحيويتها وحتى وجودها.. في ظل ظواهر اجتماعية متعددة خلّفتها الحياة
الاستهلاكية, وما أفرزته الصناعات الضخمة والتكنولوجيا.. حيث تموت مهن بكل
ما تحمله من تراث وروح الماضي وتظهر مهن بديلة بنكهة ولون هذا
الزمان.‏ 


نحن نشهد هذه الظاهرة, ولانعرف إن كان أولادنا سيتسنى لهم رؤية تراث أجدادهم.‏ 
حرفيون
تركوا آثارهم معلقة على جدران الأسواق القديمة وآخرون ما زالوا يحفرون في
إزميل الزمان ذاكرتهم لتترك بصمتها في صخب الحداثة والعولمة.‏



عندما
دخلنا سوق السروجية في دمشق القديمة انتابنا شعور غريب, شعور عن زمنٍ تسقط
فيه كل ضوضاء وصرعات الحياة الاستهلاكية حيث يحن الإنسان إلى العراقة
ويأنس للماضي.. وفي لقائنا مع الحاج سعيد, أبو أحمد أحد المهنيين القدماء
والكبار في العمر, استعدنا معه شريط الذاكرة إلى ما قبل 800 سنة حيث العصر
المملوكي الذي أنشئ فيه هذا السوق الملاصق لقلعة دمشق.‏ 

يقول
أبو أحمد: إن السروجية بكل ما فيها من مهن كانت تابعة لقلعة دمشق وكانت
مخصصة لصناعة لوازم الجند ولوازم الخيل بالإضافة للمهن الأخرى, صناعة
العداد الحربي, الملابس, أدوات التنقل والأحذية والتي كانت مطلوبة
بكثرة.‏ 

ولكن
اليوم ومنذ خمسين عاماً لم يبق من هذه الصناعات سوى صناعة النطاقات التي
كان يضعها كبار السن على خصورهم على شكل الأنوال القديمة الخفيفة (الكمر)
وتستخدم لوضع الأموال وبعض الحاجيات الأخرى والتي أصبحت أيضاً قليلة الطلب
إلا من بعض سكان الأرياف واستبدلت هذه الصناعة بالجزدان الجلدي الصغير
الذي يوضع في الجيب.‏
 



والجلديات بشكل عام هي كحرفة أصبحت موجودة لصناعة الجزادين وبيوت الأسلحة القديمة للزينة ثم بيوت للموبايلات.‏ 
أما
صناعة السروج فلم يبق سوى حرفيين يعملان بها في كل السوق وأصبحت مقتصرة
على صناعة زينة الخيل, باعتبارها ما زالت مطلوبة للدول المجاورة ومن قبل
بعض السائحين.‏ 



غابت بيوت الشعر‏ 

وفي
هذا السوق.. استبدلت صناعة الخيام وبيوت الشعر مع كل ما يتبعها من أدوات
للتنقل والاحتفالات وحلت محلها صناعة المظلات التي توضع على المحلات
وشرفات البيوت, مع صناعة بسيطة تخص خيم البدو والفلاحين حيث يستخدمونها
أثناء جني المحاصيل الزراعية في بعض المناطق النائية, ولم يبق من بيوت
الشعر سوى الذكرى الجميلة لتلك العادات والتقاليد التي كانت ترافق هذه
البيوت.‏
 




انقرضت صناعة السيوف‏ 

ويعود
أبو أحمد في ذاكرته إلى عام 1979 عندما هدم جزء كبير من سوق المهن اليدوية
لمصلحة توسيع الشارع, وهو الجزء الذي كان يختص بصناعة السيوف الدمشقية
والخناجر, وقد ذهبت هذه الصناعة مع ذهاب سوقها فلم يبق لأصحاب هذه المهنة
(الكبار في العمر) مكان ليعملوا به أو ليعلموا الحرفة لأولادهم وقد مات
أغلبهم.. وما موجود اليوم.. هي سيوف للزينة مقلدة وشبيهة بتلك السيوف ذات
النصل الذي يضرب الصخر ولا يتأثر وبحسب تأكيدات بعض الحرفيين الذين
التقيناهم في السوق.. بقي شخص واحد فقط في كل دمشق وريفها ما زال يعرف كيف
كانت تصنع السيوف الدمشقية.‏
 




خطأ كبير‏ 

يشير
هؤلاء إلى الخطأ الكبير الذي رافق هدم السوق وهو عدم تأمين مكان بديل
للحرفيين الذين هدمت محلاتهم, فضاعت الحرفة, وبالتالي هم يخافون أن يتكرر
ذلك معهم في سوق السروجية ,حيث توجد إشاعة تقول: إن السوق معرض للهدم في
شارع الملك فيصل ولكن وللأسف هذا سيقضي على ما بقي من صناعات وحرف يدوية
والتي تمتد إلى 800 سنة مضت.‏
 




السائح يحب هذه المنتوجات‏ 

وقال
لنا بعضهم: لماذا يأتي السائح إلى دمشق القديمة وإلى هذه الأسواق? هل لأنه
بحاجة إلى أبنية ضخمة وأسواق بأبنية عالية وصناعات حديثة أم لأنه يبحث عن
الماضي والتراث والحرف التي يصنعها الإنسان بشكل تقليدي, وبالتالي إلحاق
الأذى بهذه المهن ألا يعني الافتقار إلى جانب مهم من السياحة.‏ 

نعم إن السائح يأتي من بلاده ويقف أمام المحلات ويتصور مع هذه المنتوجات التي يحب شراءها.‏ 



أربعة نحاسين فقط‏ 

في
سوق النحاسين بالكاد كنا نسمع أصوات بعضنا, وكان السيد مصطفى ياغي منهمكاً
بالعمل, فطلبنا منه التوقف لكي نسمعه, فقال: أعمل في هذه المهنة منذ
ثلاثين عاماً وقد ورثتها عن والدي ولكنه للأسف, هذه الحرفة لم يعد لها
نفعٌ الآن ولا تأتي بهمها, الناس اليوم يتوجهون لشراء الأواني الزجاجية
والستانليس, في حين منتوجاتنا لم تعد مرغوبة إلا لبعض المعامل ومصانع
الحلويات أو للزينة والديكور.‏ 

وتابع
حديثه قائلاً: لكل زمن عزه, قديماً كانت الأواني النحاسية تؤخذ ضمن جهاز
العروس, وطبعاً هذه المسألة غير موجودة الآن وهذا أثر على الحرفة كثيراً,
الآن في كل دمشق لا يوجد أكثر من أربعة محلات فقط بعد أن كنا 80 محلاً
لصنع الأواني النحاسية.‏ 

وأعتقد أننا عندما نترك المهنة لن يكون هناك أحد, فهي لم تعد تطعم خبزاً.‏ 



ومبيض واحد‏ 

ارتبطت
مهنة المبيض بمهنة الأواني النحاسية, وكان عدد العاملين بهذه المهنة
كبيراً جداً, إذ كانوا يتجولون في الأرياف يسألون عمن لديه طناجر وأوان
نحاسية بحاجة إلى تبييض, الآن لا يوجد سوى مبيض واحد في دمشق.. وهو على
الآغلب من دون عمل يقوم به.‏ 

وحسب ما أكده لنا العاملون في سوق النحاسين, إن المهنة اختفت مع تراجع استخدام الناس للنحاس.‏ 



حداد عربي.. مهنة إلى الانقراض‏ 

توفيق
شربجي حداد عربي, التقيناه في محله الذي يقع بين سوق السروجية وسوق
النحاسين كان واقفاً بين أدواته, وباب المحل مغطى من كثرة (المناجل
والجواكيش والمجارف) وغيرها من الحاجيات المصنعة من الحديد وبأشكال
تقليدية.‏ 

في
حديثه معنا, أشار إلى أن أدواته كانت مطلوبة بكثرة من قبل المزارعين
والنجارين وعاملي البيتون, إلا أن مبيعاته اليوم انخفضت إلى 30% ولم تعد
هذه الأدوات مطلوبة في ظل الأدوات الزراعية الحديثة وطرق البناء الحالية..
إضافة إلى البضاعة الصينية التي أثرت على الحرفة بشكل كبير, حيث تباع هذه
المواد بأسعار رخيصة ويقبل عليها المواطن رغم معرفته بعدم جودتها..
والعاملون في هذه الحرفة انخفض عددهم إلى أقل من النصف.‏